top of page
  • الرجل : "نيروبي: رجلٌ يقتل أباه ثم يخصي نفسه"  نُشر في "السفير" بتاريخ 17/06/1996 (أ.ف.ب)

  • انتخاب : "زيوغانوف الأوّل في لبنان" نُشر في السفير بتاريخ  17/06/1996 (تحقيق محلّي)

  • دكتوراه : "مصر: القضاء يرفض إشراف أستاذتين على رسالة دكتوراه"  نُشر في السفير بتاريخ  17/06/1996 (أ.ف.ب)

  • العين الأولى: فهدة : "الكويت: ثلاث سيّدات يخطفن عاملاً بنغالياً لاغتصابه "  نشر في السفير بتاريخ  17/06/1996 (وكالة رويتر للأنباء)

  • العين الثانية: عنود : المصدر أعلاه

  • العين الثالثة: نوف : المصدر أعلاه

  • العين الرابعة: عبد الرحيم : المصدر أعلاه

  • الصديق : "روميو الكهل قتيل الهوى"   نُشر في النهار بتاريخ  28/06/1996

  • أمراء : "انتحار أمير وأميرة والأسباب مجهولة"  نُشر في السفير بتاريخ  17/06/1996

  • الخنازير : "الخنازير تتكاثر في حاصبيا وتهدّد مواسم الحبوب والخضر"  نُشر في السفير بتاريخ 27/6/1996

  • النصيحة بجمل

  • كاسيت إلى عاصي : 

الرجل

"السفير" بتاريخ 17/06/1996 (أ.ف.ب) - نيروبي: أقدم الكيني م.م (32 عاماً) على خصي نفسه بعدما قتل والده. وقد حصلت هذه المأساة في قرية صغيرة باقليم كاكاميغا غربي كينيا. ونقلت وكالة الأنباء الكينية عن --- قوله أنّه تعارك مع ابيه الذي أبلغ الشرطة بتجارته غير المشروعة ..... وقد قتل والده بطعنه مرتين بسكين في بطنه...... و.... خصى نفسه قبل أن يتمكن رجال الشرطة من اعتقاله ونقله مقيداً على سريره إلى المستشفى.

أخرج أخيراً من موعد العمل المرعب، لا أريد الآن أن أتذكر ما جرى، أتحسّس ما تقبض عليه يدي داخل جيب بنطالي الممزّق، أتلمسّه المرّة تلو المرّة أتأكّد من وجوده، أسير في الشارع المزدحم بالناس ولا أشعر إلا بما يملأ أصابعي، يبدو لهم أنني مثلهم لكنهم لا يعلمون الفرق بعد، وحدي أعرف به، أتأكد من حصوله من ملمسٍ في جيبي، من صوت ورق مثني يخشّ ما إن أداعبه،

يظنّون أنني فقير في عقلي وجسدي مثلهم، يرونني في منظري المزري الذي ما زلتُ فيه، لا يعلمون ما الذي استجدّ، ومن أين لهم أن يعلموا وأنا لم أصدّق بعد ما قد ملكت؟ لكنّني كنتُ متأكداً منذ الأبد أن حلمي ذاك سيتحقق، لم يكن يراودني في ذلك شك

كلّما اشتهيتُ منظر الأوراق المالية الكثيرة في أيدي أرباب العمل الذين تناوبتُ عليهم في حياتي، كلهم كانوا يتشابهون في ذلك، كلّهم يمدّون يدهم إلى جيبهم ويخرجونها ممتلئةً بأوراقٍ كثيرة، لا يهمّ إن كانت عشرات أو مئات أو آلاف، المهم أنها تبدو دائماً أكثر مما يلزم، أنظر إليها بدهشةٍ لكن مواربةً موجهاً نظري نحو الأرض وكل عيون جسدي تنظر إلى ما بين أيديهم، أخاف أن يروا ما في نفسي من انبهارٍ فيتهمونني بعدها بالحسد، لا شكّ أنّه كان يصعب عليهم عدّها، لا شكّ أنّه يلزم لذلك تقنيّة خاصة وخبرة ومهارة،

لذلك لم أشأ حين ناولني الزعيم المبلغ منذ لحظات أن أعدّ الأوراق أمامه، سيعرف أنني لم أتعود هذا الأمر من قبل ويسخر منّي ولعلّه سيوقف التعامل معي، أخذته على عجلٍ وكأنني لا أبالي وأدخلته بسرعة داخل الجيب،  ها هو الآن في مكانٍ أمين باستطاعتي أن أقبض عليه بشدّة، كنتُ أعلم أن ذلك سيحصل يوماً ما، كنت على استعدادٍ لفعل المستحيل في سبيل ذلك، وها أنا ألمس بيدي أخيراً حلمي الذي تحقّق، لا أستطيع لجم رغبتي برؤية ما أتلمّسه، عليّ أن أجد زاويةً لا يراني فيها أحد فيهاجمني ويسرقني وقد أضطر إلى قتله والله إذا ما تجرأ! سأجد مخبأً أقف داخله وأتمتّع وحدي بعدّ أموالي التي لا تُحصى، مدخل تلك البناية التي تبدو مهجورة ينفع، لن يرى أحدٌ ما أفعل، أخرج الأوراق بلهفة، عليّ الآن أن أتعود على هذه الحركة دون ذرّة تسرّع، أن أخرج يدي من جيبي بالدرجة اللازمة من البطء فأبدو أخيراً مختلفاً عن الآخرين، أصبح رجلاً فحلاً كالزعيم قادرٌ على نكاح أربعة نساء دفعة واحدة، منذ وضعت الأوراق في جيبي وأنا في حالةٍ انتصابٍ  شديد، كنتُ من صغري أعلم أنها تملك هذا المفعول السحري، ها جسدي يستمد منها طاقةً مجهولةً ولذّةً غريبةً تجتاحني وتجعلني في هياجٍ لا قدرة لي عليه، لم أعهد جسدي بهذه الفتوّة من قبل، لهذا السبب يملك الزعيم وكل الأغنياء نسوة جميلات، لا شك أنهم يضعون الرزمة على عضوهم فيستمدّ منها الذكر الفحولة، أخرج من بينها واحدة زرقاء كبيرة، أمرّرها عليه بنعومة، أتنهدّ من النشوة، المال دائي ودوائي، أعود إلى الشارع أنظر حولي ها أنا أخيراً أحيا متميّزاً عن جماهير البشر المتدفقة المتراكضة الساعية إلى عمل يشق النفس لجني بضعة دولارات لا تكفي لسداد الرمق فمن أين تأتي لهم بالمتعة، وها الأوراق المتداخلة المتراكمة فوق بعضها البعض كلّها دفعة واحدة ملكي وحدي في جيبي تمدّني بالفحولة الموعودة! بإمكاني أن أقارن نفسي بهذا السيّد المتعجرف  الجالس في المقعد الخلفي لهذه السيارة الفخمة ينظر بتعالٍ شديد إلى السائق، لا شكّ أنّ سيدةً رائعة الجمال بانتظاره، لا فرق بيني وبينه بعد الآن، بإمكاني أن أكون هو، أو ذاك الذي يدخل بزهوٍ إلى المطعم الفخم حيث فاتورة الشخص تتجاوز معاش شهر، هنالك مجموعة من النساء قد دعته إلى مشاركتها يختار بينهنّ من يشاء ويذهب بعدها لممارسة النكاح، أو ذاك الذي يسير مثلي وحده على الطريق بين آلاف البشر لكن يبدو على محيّاه أثر النعمة وفي مشيته شيء من البحبوحة، لقد تلذّذ حتماً هذا الصباح بما يملكه، باستطاعتي أن أخبرهم أنني مثلهم، بغناهم، بقدرتهم على التحكم في مصائرهم دون قرصة جوع أو برد أو قلق أو وحدة، لم أعد كائناً عادياً متكرراً بنسخٍ مشوّهةٍ ملايين المرّات لا يجرؤ على رفع رأسه أو قبضته أو صوته أو ذكره، سأذهب وأجد لنفسي امرأة، سأبحث في السوق وأختار الأجمل بينهنّ، أريدها بيضاء شحيمة لحيمة لا تتمنّع عليّ بل تدرك بشطارتها كم أصبحتُ قادراً على إطعامها وإشباعها كالفحول الحقيقيين، أتوقّف عن السير وكأنني عرفت في هذه اللحظة فقط من أين أبدأ في المتعة، أنتبه فجأةً إلى حيث أنا، لماذا تقودني قدميّ دائماً  إلى هنا؟ لا أريد أن أتخطى عتبة هذا البيت الملعون! اللعنة على تعبي وإرهاقي وشرودي، أعود دون أن أدري دائماً من حيث أتيت، إلى هذا الباب المخلوع وتلك الشجرة المسلولة ورائحة المرض المتسللة من كل الزوايا، كل ما في هذا المكان يدفعني دفعاً إلى الخلاص منه، عليّ الدخول مرغماً كما في كل مرّة للقيام بما يتوجّب دائماً عليّ، لا أريد أن أواجهه الآن، لم أعدّ نفسي بعد لما سأقوله له، لا أدري من أين أبدأ، ينتابني قبل أن ألج إعياءٌ شديد، زالت كل رغبة منّي وزال معها شعوري اللذيذ بالانتصاب، لن أدعه يفعل بي ذلك أيضاً! هذه المرّة سأمنعه! تتخطّى أقدامي إرادتي تسبق قراري  وتلج بي بسرعةٍ إلى مواجهته، لم أنتبه في السابق إلى تحوّله البطيء إلى كهلٍ عجوز، لم أرَ من قبل كل تلك التجاعيد في وجهه والرجفة المستمرّة في يديه المعروقة، أبي، أحقاً هذا أنت؟ أقف وحدي قبالته ولا يخرج منّي كلام، ينظر إليّ كالصنم، لا يرفّ له جفنٌ ولا ترشح منه ابتسامة، ينظر إليّ يخترقني حتى العظام أرتجف من دون سبب، تثبت عيناه عليّ يرى ما بداخلي يقرأ ما تجمّد على شفاهي دون أن أنبس بكلمة، أرتعد سلفاً من الرهبة، تمرّ اللحظات الواحدة تلو الأخرى في بطء مميت لا تريد أن تنتهي، يتوقف الزمن عن الدوران وكل شيء عن الحركة، لم أعد أسمع صوتاً سوى تنفسّي المضطرب، أتذكّر حفيف الأوراق في جيبي، أستمدُّ من هذه الذكرى قوّتي أخرجها بسرعة أعطيه إيّاها مجموعة كما هي دون ترتيب ولا كلمة، يدي المليئة بالوعود ممدودة بصراحةٍ إليه، سيشرح المال كل شيء، لا داعي لهذا التوتّر في الانتظار، تبقى يدي معلّقة وحدها في الهواء ويبقى الأب في جموده كالصنم عيناه ثابتتان كمسمار ينخرز في مقلتيّ، أقبض أصابعي على الرزمة وأفتحها مرة واثنتين وثلاث فتصدر موسيقاها العذبة ويبقى في جموده كأنه صمٌّ لا يسمع! أنتظر أن يطلب منّي شرحاً أعجز عن قوله ولا يفعل، يطو ل انتظاري ويطول صمته ولم تزل الأوراق شاهدة على عنف ما يجري، وإذ بشفاهه تنشقّ أخيراً وبصوته الخافت يلعلع كالرعد في أذنيّ: "هذا مال حرام!" أتوقّع ما ستصدره عليّ من أحكام أيّها الأب الجليل، مشكلتي لا تكمن هنا، مشكلتي تكمن في تلك اللذة الممنوعة التي يمنحني المال إياها، كيف أقنعك أن المال لا حرام فيه ولا حلال، بل نشوةٌ صافية أرقى وأشمل من كل الملّذات؟ لماذا لا أستطيع أن أتحدّث معك كما تتحدّث الرجال؟ لماذا لا ننسى أبوّتك وبنوّتي ولو لمرّة؟ يكفي أن أخبرك عن شهوتي وهيجاني وانتصابي لملمسه كي تفهم! يكفي أن تعطيني أي أنثى كي تستنج وحدك! "أبي، إنّي رجل!" خرجت الكلمات من فمي دون تفكير ولا انتباه، خرجت كقنبلة مدفع أُطلقت  على حين غرّة سبقتني أحاول التقاطها بينما تنطلق متعثّرة بسرعتها فيطلع صوتي مبحوحاً مخنوقاً بانفعالٍ خانقٍ يمسك بي من خصيتيّ! يصلني من الإله المتربّع صوتُ نفسٍ قصيرٍ حادٍ صادرٍ من أنفه أو حنجرته  يختصر وحده كل سخرية القوقعة التي أحيا فيها محجوزاً معه، صوتُ زفرةٍ تشابه ما قبل ولادة الكلام فيظهر الأبُ حيواناً يزأر احتقاراً لكل ما حوله، لا يحق لك أن تسخر! لا يحق لك أن تحتقرني بهذا الشكل! إنّي رجل!  أنظر ما في قبضتيّ! أضغط على أعصابي المتوتّرة أبذل جهداً فائقاً للوصول إلى الهدوء اللازم أكرّر له أحاول أن ألفظَ ما أوّد قوله بوضوحٍ أن أثبتَ له بحزم صوتي معنى ما أودُّ قوله: "أنّي رجل!" ويأتيني صدى صراخ! ما الداعي إلى هذه الذبذبة العاليةِ الصادرةٍ عنّي الجارحة كالنحيب؟! من أين جاءت هذه اللهجة القويّة الغريبة عمّا بيني وبينه منذ أبد الآبدين؟ كيف أجرؤ على نبرةٍ كتلك؟ أرتعد من وقع صوتي، ترتجف مفاصلي تضعف ركبتيّ أقسو على عضلات ساقيّ كي أبقى واقفاً كالرمح في وجهه، أبتسم لعلّي أخفف من وطأة لهجتي فتتشنجّ عضلات وجهي تؤلمني أسناني من شدّة كظمي عليها أبتلع ريقي الجاف الممتزج بأثر طعم دماء محقونة، مظهري المشدود أكثر مما تتحمله طاقتينا ينذر بمأساة صراخي من غير جدوى، المناسبة تتطّلب وضوحاً في الحديث وقليل من السيطرة على الأعصاب، الأب لبيبٌ حكيمٌ سيفهم من الإشارة، سيدرك حتماً أننّي على حق، سيحدس ما يجري في جسمي من دماء حارة تتجمّع في نقطة انطلاقٍ واحدة تؤّكد لي أنني أحيا كرجلٍ فحل! ما زلتُ أنتظر جواباً منه انقضَّ على رقبتي كالمقصلة، "مالُك حرامٌ! لن تصبح في حياتك رجلاً!" أهجم عليه بلمح البصر أنحره يلمع فولاذ سكيني الذي يجتزّه من الوريد إلى الوريد كالبرق ينفر الدم يطنُّ كالرعد الضارب بشدّة في أذني، ينهمر على الأوراق المتناثرة على الأرض يسيل صوبها يكاد يوسخها أنحني لجلبها يؤلمني عضوي من شدّة الانتصاب أعي أخيراً ما قد حصل أصل ذروة نشوتي بقسوةٍ رهيبةٍ، أجل! لقد قتلته! تمتدّ يدي تجمع المال مرتجفة، ذهني ملبّدٌ بغيوم كثيفة تتصاعد من رائحة دمه النتن، أضمُّ الورقة تلو الورقة، أجمعها كلها داخل قبضتي، تكتمل في رزمة مرتبّة نظيفةٍ أعيدها إلى جيبي، أمسح الدماء عن مُديَتي، ألقي نظرةً على الجثة الهامدة وأتمدّد قربها بهدوء، لا أشعر بأي ندم، لقد أزحت ببساطةِ الفعل الذي لا مفرّ منه الحاجز المنتصب بيني وبين الرجولة، المال الذي أملكه يبرّر ما قمتُ به، سيثبت لي ثانيةً أنّني على حق، سأتأكد معه من ضرورة ما فعلت، أتقصّد التفكير بيدي التي تمتّد إلى جيبي ومتعة ما ينتظرني فيها، أنظر إلى هاتين العينين المحدّقتين في الفراغ المحيط بي وأبتسم شماتةً بانتهاء سيطرتهما عليّ، ها يدي تتلمّس الأوراق الملتصقة بفخذي متوقّعة ما سيجري في جسمي من لذّة، إنهاكٌ ودبيبُ نملٍ يسري قبلها في أعضائي حتى أطراف أصابعي فأصر على الاستمرار في سعيي إلى إحساسٍ مضى كأنّه لن يعود، أفتح أصابعي وأغلقها بشدّة المرّة تلو المرّة أتلمسّ مالي أتحسّسه أحاول استرجاع لذّتي دون جدوى، لم يعد لديّ ذرة طاقة، لا يأتي الشعور المتدفق الذي يرافق حفيف الورق بالهياج المأمول، أتلمّس نفسي من خلال المال المتكوّر أنتظر سريان رعشةٍ أكرّر ما يستدعيها ولا يأتي إليّ حسّ، أسحب الأوراق أدنيها من أنفي أتنشقُّ الرائحة المثيرة ولم يزل كل عضوٍ فيّ في رقود، أضع بعضها على أنحاء من جسمي ألفُّ بها ما يظهر منه بحنان أستثير مسامي ولا يسري فيّ دم، أستدعي الذكريات أستجديها أن تحملني إلى حيث كنت أرحل أراني أشحذ قطعة نقد حديديّة أضعها بلصق جسدي فيلتسع من ملمسها البارد وينتصب لها متمتعاً بها حتى تبتّل، وها احتمالات تفوق الوصف في متناول اليد تعجز عن إرضائي بوهم متعة! تنهمر دموعي بغزارة، أكان الأب على حق؟ والله لو ثَبُت ذلك لقتلتُ نفسي! لا أستحق العيش إن لم أثبت لجسدي المتمرّد أنني على حق! أضم راحة كفّي على أهم ما أملك في جسدي أستذكر ما أشاء أفعل المستحيل كي أعود إلى سابق عهدي، أسترجع ما وعدتُ نفسي به من ملذّات لم أحلم بها من قبل، تتراقص أمامي قاماتٍ ممتلئة غضّة وبشرات بيضاء نقيّة وبطونٍ وأثداءٍ وأفخاذٍ ولستُ أشعر إلا بإرهاق...مستحيلٌ أن يكون الأب على حق، لقد مات، لم يعد له وجود، لماذا لم أرتح بعد؟ اللعنة عليه! لم ينفعني موته! ما زالت عيناه الثابتتان تحدقّان بي تمنعاني عن الحركة، يأكلني الغضب، سأقتلك مجدّداً ومجدّداً حتى ترحل عنّي إلى الأبد وتتركني أحيا! دعني أتمتّع برجولتي! أنهمر عليه بطعنات مديتي وأدرك أنّني في قرارة ذاتي أقتل نفسي التي تتراءى لي من خلال تجربتي، أطعنه بعد وبعد وبعد لأنّه على حق! أطعن صورتي في عينيه البشعتين الثابتتين اللتين ما زالتا تقولان برغم تخثر الدم فيهما أنني لست برجل! أغرز سكيني في عنقه وصدره وبطنه أتألّم في أعصابِ كل عضلٍ متوترٍ في عنقي وصدري وبطني لأنّني أعجز من أن أغرسها في جسدي الهارب! الجيفة الباردة التي تقسو تحت وطء طعناتي أكثر علماً بما أنا عليه في الحقيقة، روحه التي تحلّق في كل مكانٍ تردّد عليّ ما لا أريد أن أعرفه، المال مالي الحرام لم يجعل منّي الرجل الذي أطمح، تهمة أبي الذي لم يمت برغم الطعنات تلتصق بجسدي تلتحم بالعرق المتصبب منّي تؤكد لي حقيقة من أكون! أطعنه وأعلم أنّني أجبن من أن أقتل نفسي التي لا تستحق الحياة، تتضاعف وتضعف القوى التي تحمل ذراعي النازل الصاعد المتسارع المتباطئ دون أوامرٍ منّي، ألهثُ وراء صورةِ نفسي المحطمة مع العظم المنكسر تحت وقع الفولاذ، تنقطع أنفاسي  أتعبُ أنهارُ أرتخي كلّي كهذا العضو الذي لا نفع له، أرتمي منهكاً على الجسد الممزّق الذي يعرف وحده الحقيقة، ألتصق بأشلائه المبعثرة، تسيل قطرات منّي، عرقٌ أو دمعٌ أتركه يسري عليه وعلى حالي، أستسلم لليأس أرتاح لما أنا فيه، أرضى بما توّصلتُ إليه من قناعة، أنّي أكثر جبناً من أن أضع حداً لحياتي، عليّ القبول بهذا الأمر المسلّم به بحكم اللحظات التي تمرّ عليّ وتؤكّد في كلّ منها عجزي وجبني، لستُ بقادرٍ على تحمّل عبء حلمي الجميل بالفحولة الذي سيتكرّر كالكابوس إلى أن أموت من قهري وعذابي دون أن يتحقّق، ما عليّ سوى وضع حدٍّ لهلوسة ستسمّم عليّ العيش الذي لا مفرّ لي منه، ما عليّ سوى جعل حقيقة جسدي تتطابق مع حقيقة روحي التي اكتشفتها، ما عليّ سوى الوصول بهما إلى حيث لا عذاب ولا تعذيب بعد انتفاء السبب، هذا العضو المتراخي على الأشلاء الممزّقة لا داعي له، سببُ ألمي النافر الضامر المتأرجح في محاولة إثبات وجوده مذ خلقت والذي سيبقى جزءاً منّي يعذّبني وأعذبّه طوال العمر المتبقّي بالضرورة لا لزوم له، ما عليّ سوى أن اقطعه وأضعه بجانب أحشاء أبي كمصرانٍ يصلح للمقانق، أليس هذا ما أنا في الواقع عليه؟ ما زلت أمسك بالمدية في يدي الرخوة التي لا نفع فيها لرجولتي، أخاف لوهلةٍ من ألمٍ ينتظرني حين أزيل سبب شقائي بسكينٍ حادٍ لكنّ فكرة ألم روحي خلال كل السنين الطوال التي  تنتظرني بعد تمنعني من التردّد، أمسك بالذي برّر حتى الآن وجودي ولم يعد له من منطقٍ لأوّل مرّة بازدراء، أنظر إلى الدم الذي يفرّ من الشرايين المقطوعة بخدرٍ لذيذ يقارب متعتي في ما كنتُ قادراً على القيام به وسأعجز عنه ابتداءً من لحظة زوال أبي من حيز الوجود وانتقاله إلى داخل رأسي، أقاوم نخراً في ساقيّ ولسعة حروقٍ في خصيتيّ المتدليتين المتغافلتين عن كل ما يجري، أضعه بقرب بقايا أبي الذي يبتسم في مكان ما، أستسلم للوهن الذي يجتاحني أستمتع بالخدر اللذيذ، باستطاعتي الآن أن أرتاح!

انتخاب

ما أعندها! أحاول منذ أشهرٍ وأيّامٍ إقناعها بتغيير رأيها ولا ينفع في ذلك أمر ولا تجدي حجّة! لا أصدّق كم أفكارها متحجّرة! منذ أعلنوا عن مواعيد الاقتراع في المركز

خبرٌ محلي في الصفحة الداخلية تحت عنوان: "زيوغانوف الأوّل في لبنان"

نُشر في السفير بتاريخ  17/06/1996، مع تعليق وصورة حسناء روسية تقترع في المركز.

الثقافي الروسيّ ورأسها يابس كالصخر! هذه أوّل انتخابات رئاسيّة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي،  ونحن نتابعها هنا بالحماس التي تستحقّ ونثابر على تقصّي التطورات بالمثابرة اللازمة لفهم الحقائق، الحدث رمزيّ جداً والنقاش فيه ضروري، لكنه معها لم يعد ممتعاً أبداً و الاختلاف  بهذا الشكل لا يطاق! لم يكن يبدو عليها هذا الطبع الروسي الحاد، لا أفهم كيف أصبحت بهذا العناد، لم تكن أبداً هكذا حين تعرّفتُ عليها  هناك وتزوّجتها إثر عشرة سنتين، أو أنني لم أكتشف ذلك في حينه، كانت قمّة في اللطف والليونة، بل أستطيع أن أؤكّد أنّها ما نالت منّي إلا برقّتها ونعومتها، كنتُ طالباً في كليّة الطب في كييف وكانت تأتي في زيارةٍ إلى أخيها الطالب في نفس دفعتي بعد ظهر كل يوم وتجلس بقربي وتحدّثني عن عائلتها وتسألني عن أهلي ويمتّد الحديث بيننا أحياناً حتى الصباح، وقد تطوّر ما بيننا من صداقةٍ وموّدة إلى رغبةٍ بالعيش المشترك دون أن نسعى أنا أو هي بشكلٍ مفتعلٍ إلى ذلك، ووجدنا أنفسنا نتقاسم الأفكار والرغبات والملّذات ولا نختلف في أمرٍ أبداً، تروق لها سحتني السمراء وكل ما يعجبني وتروق لي حلّتها الشقراء وكل ما يعجبها، لا مجال للنزاع أو الخلاف في أي موضوع، كلانا نهوى الموسيقى الكلاسيكيّة، كلانا عاطفيّ بعض الشيء لكن واقعيّ في تعاطيه مع الأمور، كلانا يسعى إلى تحقيق ذاته في حياته المهنيّة  فهي كانت تدرس اختصاص أرشفة المكتبات لندرته وإمكانيّات العمل الواسعة فيه بينما كنتُ أتابع تخصّصي على أمل أن أعود يوماً إلى بلادي وأمارس مهنة الطب التي اخترت والتي تضمن لي هناك مركزاً ودخلاً معقولا، كلانا يرغب بإنجاب ثلاثة أطفال، قواسمٌ كثيرة مشتركة جمعتنا عندما وافقت على الزواج منّي وعلى المجيء معي للاستقرار في لبنان. لكنّها، بعد مرور سنواتٍ عديدة، أخبرتني أنّ ما قد أغراها أيضاً كانت فكرة السفر! وقد ظننتُ لطيبة قلبي أن دور هذا الإغراء في بلدٍ يصعب الخروج منه ضئيلٌ جداً في القرار المصيريّ الذي اتخّذته. لكنّها، بعد مدّة، في يومٍ فاقت فيه طاقتها على تحمّل خلافاتنا قدرتها على الصمت عن الحقيقة، فاجأتني بشدّة وصرختْ في وجهي وصرّحت عن ندمها لقرار زواجها منّي هرباً من بلدها الذي لا يُطاق! أجل، هذا تماماً ما قالته! لقد تزوجتني فراراً من بلدٍ لا يطاق! لكنّها، حين رأتْ الدهشة الكبيرة والألم الشديد المرتسم على وجهي، تراجعتْ عما قالته واعتذرتْ، وحاولتْ تحويره ونفيه ولم تنجحْ، فقد أصابتني سهامه في تلافيف قلبي وجرحت كبريائي في الصميم. لكنّي، في النهاية، غفرتُ لها الجزء الذي تراجعت بلطفٍ ومحبّةٍ عنه، وقلتُ في نفسي ذلك يحدث لا مفرّ في كل زواج منه، تجريحٌ وتعذيبٌ وإيذاءٌ مجانيٌّ ومن بعدها غفران وتسامح ووصال حتميّ لا بدّ منه، ليس هنالك حقاً ما يدعو للاستغراب، لكن ما لم أستطع فهمه أو غفرانه هو ما لم تتراجع حتى اليوم عنه، ألا وهو اتهامها لبلادها بكونها لا تطاق! كيف باستطاعتها هي السوفياتيّة أن تقول شيئاً كهذا؟ هي التي تمتّعت منذ الصغر بانتمائها لأعظم دولة في العالم! هي التي عايشت ورافقت أكبر تحوّل وأسرع تطور وأحدث نموٍّ في تاريخ أمّة! لقد خرجوا من العدم، من القرون الوسطى مباشرةً إلى الذرّة والفضاء وأرقى التكنولوجيا! وتقول عنها بلاد لا تطاق! لا أستطيع أن أفهم ولا أن أقبل ذلك! ناكرة للجميل! أكلتْ وشربتْ وتعلّمتْ وتطبّبتْ دون رعبِ أهلها آخر كل شهرٍ من قسطٍ يعجزون عن دفعه، أو مرضٍ يصيبهم في العمل نتيجة المشقّة، وتقول عنه بلدٌ لا يطاق! لا أسامحها على هذا الفكر! عليها أن تأتي مثلي من بلدٍ كالنقطة على الخريطة لم يسمع به أحد من قبل ولا يملك ما يفخر به غير العمولات والحشيش ومناخٌ موجود في كل البلاد  الواقعة على ذات خط العرض! عليها أن تذوق فوق هذا طعم الحروب الأهليّة المتوحشّة والتهجير وتهمة الإرهاب الملتصقة بجواز السفر في كل سفارات العالم قبل أن تقول كلاماً كذاك! آهٍ من شعبٍ ناكرٍ للجميل بطبعه! وها هي الآن تقرّر التصويت ليلتسين[1]! أحاول إقناعها منذ أشهر بمزايا زيوغانوف[2] ولا تسمع منّي كأنّي لا  أنطق بكلامٍ مفهوم! لقد أظهرتُ لها كل حسنات عودة الشيوعيين، وشرحت لها حتميّتها عاجلاً أم آجلاً، وأثبتُّ نظريّتي بفوزهم الساحق في بولونيا أكبر دليلٍ على عودة الابن الضال تائباً إلى حظيرة الاشتراكية، وفوزهم أيضاً في بلدان لم تكن تمتّ للاشتراكية بصلة ووصلتْ إليها بحكم التطوّر التاريخي الحتميّ، وأكّدتُ لها مراراً أنهم قد استفادوا من التجربة المريرة التي مروا بها، وأنهم بالتالي يتفادون أخطاء الماضي في برنامجهم الحالي،  لكنّها كلّما ضاعت في إجاباتها وعجزت عن اللحاق بي في تفاصيل برنامج الحزب والجدل الديالكتيكيّ والسياسة العالميّة وتفاصيل العمليّة الانتخابية وغيرها من المواضيع التي حاولتُ معالجتها معها، جابهتني برفضٍ تامٍ وبجملةٍ سخيفة واحدة كرّرتها حتى لم أعد قادر على سماعها دون فقدان سيطرتي على نفسي فأكاد أنهال عليها بالضرب لولا لجمي الدائم لأعصابي التالفة من هذا الوضع المزري الذي وصلنا إليه، "أريد الحريّة والديموقراطيّة!" تتلفظ بها بلغةٍ عربيّة ركيكةٍ عجزتْ عن تعلمها بشكلٍ صحيح فيزيد مع الحاء التي تصبح هاءً توتّري ومع القاف التي تصبح كافاً اشمئزازي، أعلم أنّه لا جدوى من المحاولة وبالرغم من ذلك أستمرّ، ولم أزل أناضل بكل معنى الكلمة، معنيٌّ أنا جداً بالموضوع، كل إنسان على وجه الأرض يجب أن يشعر أنه معنيّ بتاريخ البشرية الذي سيكتب هناك، يا ليتهم يسمحون لأهل الأرض جمعاء بالتصويت لكنّا ضمنا الفوزَ حتماً أو على الأقل حظّنا من العدل، لكنّي مجبر على المرور عبر صوت زوجتي اللعينة كي يكون لي دور! اللعنة عليها، لا مفرّ لي منها ولا ينفع فيها الجدل ولا النظريات ولا التحاليل السياسيّة الاقتصاديّة الاجتماعية، ما زالت حتى الآن تصرُّ على رأيها بشكلٍ يعجز عن تحمله العقل، لقد اضطرّرت إلى ممارسة شتّى أنواع الضغوط عليها، هدّدتها بحرمانها من تصفيف شعرها الذي أدمنت عليه، ومن السجائر الأميركيّة الغالية، ومن السوار الذهبي الفخم الذي وعدتها به بمناسبة قرب عيد زواجنا، ولم تغيرّ رأيها بعد! اتبّعتُ معها سياسة الترغيب والترهيب علّها تعدل في رأيها الذي ستدلي به داخل صندوق الاقتراع، فناورتُ مرّة مغرياً إيّاها بإمكانية السفر إلى باريس للتبضّع، وهو حلم حياتها الذي ما زلتُ مادياً أعجز عنه، لكني مستعدٌّ حقاً للاستدانة من أجل تحقيقه لها إن هي تنازلت، ولم تفعل، وناورتُ مرّة أخرى بمنعها من زيارة أهلها التي تكلفني كل صيف التضحية بمدخرّاتي على مدى أشهر السنة الباقية، إن هي لم تتنازل، وأصرّتْ، ولم تزل لا تنفع فيها طريقة! لم أعد قادراً على تحمّلها وتعنتّها الذي لا يطاق! ها نحن نلج باب السفارة، ننضمّ إلى الآخرين الذين أتوا مثلنا للمشاركة في هذا الحدث الهام والذي قد يغير مجرى التاريخ، كل صوتٍ من حيثما يأتي قد يساهم في هذا التغيير، هي التي لا تحبّ بلادها يحق لها المساهمة عبر الإدلاء بصوتها وأنا الذي أعشق هذه البلاد التي حضنتني واحترمتها وأعتبرتها المثل الذي يجب أن يحتذى به لا يحقّ لي ذلك! متى ينتهي كل هذا الظلم! لم يبق أمامي سوى ساعة واحدة كي أقنعها بتغيير رأيها قبل أن تسقط الورقة داخل صندوق الاقتراع، ها هي تتنقل فرحة مبتسمة بين الأزواج المختلطة من الجنسيتين الذين تجمهروا في الانتظار وأنا أركض خلفها كالحمار ما زلت آمل أن تقنع! ها هم يتبادلون الحديث عما يجري وها هي كعادتها لا تستحي منهم ولا مني ولا تخجل! كل الموجودين سيدلون بأصواتهم لزيوغانوف[3]، الكل قد أجمع على ذلك إلا زوجتي العتيدة! الكل متفق على أنّه يمثل الحل المنتظر منذ الانهيار الأخير إلا حضرة العنيدة! تكرّر جملتها التي لا تحتمل دون حياء: "أريد الهريّة والديموكراطية!"  وأخجل منها أتمنى أن تنشقّ الأرض وتبتلعني حين تهينني هكذا أمام الموجودين! لا تحترم رأيي ولا يهمها ما قد أقول وتستمر لا مبالية في تكرار جملتها الركيكة من فريقٍ إلى آخر، وما زلتُ ألحق بها أمسك بها من طرف ذراعها ألامسها بعطفٍ حيناً وأضغط عليها بقسوة حيناً آخر علّها تتوقف علّها أخيراً تفهم!

أتابع تنقلات زوجتي ألحقها من مكانٍ إلى آخر أراها تتراقص على كعبيها العاليين تهزّ ردفيها كغانية ألمح نظراتَ شبقٍ في عيون الآخرين أكظم غيظي لا يهمّني منها ومنهم سوى نتائج التصويت، ها هي تحيّي بطرفِ لسانها أيرينا التي وعدت وصرّحت علناً ومراراً بضرورة إدلاء الصوت لصالح زيوغانوف، وحاولت مراراً التلاعب بمشاعر زوجتي القوميّة، واستثارة تعاطفها الدائم مع النساء، وتذكيرها بالإهانات المتتالية وإلحاحها على المذلاّت التي تحياها الروسيّات في خروجهن إلى العمل خارج البلاد كخادمات أو غانيات! ولا تبالي العزيزة وتهز كتفيها كردفيها بهزءٍ واستخفاف! ها الحرم المصون تلتقي بأولغا، تتبادلان القبلات والضحكات كأنَّ لا شيء يهمّ! أضغط على أسناني محاولاً أن أبتسم لعصام زوج أولغا الذي يوافقني ضرورة التصويت لصالح زيوغانوف، فيخبرني ما إن تردّد زوجتي جملتها الشهيرة أن أولغا تشاركها الرأي لصالح يلتسين، ويرتجف صوته بانفعالٍ عابرٍ وتشي حركات وجهه بقلقٍ لم أعهده في السابق لديه، أشعر ببعضٍ من الراحة، أواسي نفسي أنني لستُ وحدي من يعاني، تأتيني تنهيدة عصام رداً صريحاً مباشراً على زفراتي، يقرع فجأةً جرسٌ يعلن عن بدء عملية الانتخاب، تتسارع دقّات قلبي وتزوغ نظراتي بحثاً عن زوجتي التي اختفت بغتةً، أريد للمرّة الأخيرة أن أتوسّل إليها، سأقبّلُ يدها علناً أمام الجميع طالباً منها أن تتنازل عن صوتها لي لصالح مرشح الحزب الشيوعي المناضل الثائر، لكنّها اختفت، أركض إلى الداخل أشعر بلسعة بردٍ تسري في بدني من جراء التكييف القويّ أو لعلها مجرّد رجفة خوف، أراها تدخل وراء الستارة، ألمح أولغا خارجة تبتسم، يرنو عصام إليها وفي عينيه سؤال واحد واضح وضوح الشمس اللاهبة في الخارج، يجفّ ريقي في حلقي وعرقي على ملابسي المبتلّة أرغب بالذهاب فوراً إلى الحمّام أتماسك بانتظار جواب أولغا التي ما زالت تبتسم، ها هي تقترب من عصام تحيط جذعه بذراعيها تتدلّل عليه تغمض عينيها تمدّ له شفتيها فيطبع عليهما قبلةً خاطفة ويدقق النظر في تفاصيل وجهها بحثاً عن جوابٍ تتلذّذ  أولغا في جعله ينتظره، وتهمس له أخيراً بكلمة حبّ: "زيوغانوف!" تنفرج أسارير وجهه يحضنها ويخرجان متأبطان بعضهما البعض يعودان معاً إلى إيقاع حياتهما الروتينية العادية الحلوة، أتردّد في اللجوء إلى الحمام أنتظر دوري متأزماً محشوراً أرتجف من التعب والبرد، أفكّر في حالي أجدني دون انتباه منّي أتمنّى من كل قلبي أن تكذب زوجتي عليّ! أإلى هنا وصل بي الأمر؟! أكره نفسي أشعر نحوها بالإزدراء، يبدأ في ضلوعي شعورٌ قويٌّ مزعجٌ بالغليان وما زلتُ آمل وما زلتُ أنتظر! لماذا لم تخرج اللعينة بعد؟ يتراءى لي في هذه اللحظات التي لا تريد أن تنتهي شريطُ حياتي معها يزداد ضيقي لعجزي عن تمييز حقيقة تقييمي لما يدور في ذهني من ذكريات، أكاد أستسلم لإحباطٍ يتسلّل إليّ من تعبِ وقوفي وإرهاقِ انتظاري، أرى زوجتي المصون تظهر من خلف الستارة تتأرجح على كعبها العالي وأتأرجح مجدّداً بين أملٍ ويأس، تمضغ علكتها المبتذلة تمضغ كرامتي داخل فاها الذي لا ينطق بكلمة، إرمي لهذا الكلب الواقف ينتظر سيّده بعظمةٍ تسد جوعه دعيه يتلهّى فيها عنك! تتمايل ببطء ولا مبالاةٍ تتلاعب بأعصابي التلفة أشعر أنني أكرهها من أعماق أعماقي، ما عليّ سوى أن أدير لها ظهري وأفارقها فوراً إلى الأبد، ما عليّ سوى أن أتصرّف كما يجب عليّ، لماذا لم أزل مسمراً هكذا في مكاني؟ شيئٌ ما طفيفٌ داخلي ما زال كالكلب ينتظر موعوداً، يلاحق بعينيه نظرها الذي يفرّ منه ولا يريد بعد أن يفهم، يتشبثَّ ببقايا أملٍ يذوي كلّما اقتربتْ، لا يجرؤ على فتح فمه فيجرحه كلامه وهي تعرف وحدها السؤال الراقد على لسانه داخل حلقه الجاف، تمرّ من قربه تتجاهل وجوده تستمرّ في السير كأنها لا تراه وما زال لا يريد أن يفهم، ما زال يريد أن يسمع! يلتقطها في سيرها يجذبها بعنف إليه يهزّها بين قبضتيه دون صوتٍ صادرٍ عنه سوى صفير نفسٍ مكتومٍ غاضب، تهزّ كتفيها بلامبالاة واضحة هازئة تقول دون رفّة رمش: "لقد سبق وقلت لك: أنّه يلتسين..." أجدني أصرخ دون وعي بأقصى طاقتي: "أنتِ طالق! طالق! طالق!" 

 

[1] - مرشّح التغيير المناهض للشيوعية

[2] - مرشّح الشيوعيين

[3] - لقد فاز زيوغانوف بـ 117 صوتاً مقابل 80 صوتاً للرئيس بوريس يلتسين بينما حصل باقي المرشحين على 46 صوتاً.

 

دكتوراه

سأريهما ما أنا قادر على فعله! أنا محمود عبد الصبور سأعلّمهما من يحكم في هذا العالم! لم يعد ينقصني إلا هما! لم أتعب وأشقى وأدرس منذ أكثر من ثلاثين سنة كي تحكم في آخر الأمر امرأة على مساري! ويا ليت امرأة واحدة، بل اثنتين! لم تكفيهم في قرارهم واحدة، منطقٌ أعوجٌ لا شكّ يختبئ وراء قرار عبثيّ كهذا! المرأة بنصف عقل، وجمع نصف عقل مع نصف عقل لا يودي بالمنطق إلى حكم رجلٍ عاقلٍ واحد، صحيح أنّ شهادة امرأتين بشهادة رجل،  لكن شهادة عشرين ألف امرأة لا تكفيان لتقييم شهادتي الدكتوراه! ما أعجب هذه الأيام التي وصلناها! أكاد لا أصدّق! هل من المعقول يا ناس أن أكدّ وأسعى منذ ثلاثة عقود إلى التعلّم وكسب الشهادات الواحدة تلو الأخرى بطلوع الروح وسهر الليالي وكدر النهارات كي تقرّر في النهاية امرأة أو امرأتين جدوى ما قمتُ به؟! لا ولن أقبل بقرارٍ كهذا ولو على جثّتي! الأحرى بي أن أقول على جثّتهما! لا مانع لديّ أبداً من قتلهما إذا ما اضطررت إلى إزاحتهما من طريقي بهذه الطريقة، ما هما سوى أنثى وأخرى بالناقص ولن تتوقّف باقي الإناث عن الإنجاب! لكنّي أذكى من الجأ إلى هذه الطرق الملتوية التي قد تسبب لي المشاكل وتضطرني إلى تقديم أطروحتي من خلف قضبان الزنزانة! ثمّ أنّ لي حلفاء كثر أجدهم كيف ما التفتُّ دون الاضطرار للبحث عنهم، يتفهمون موقفي ويدافعون عنه وسيساعدونني حتماً في إزاحتهما بالطرق القانونيّة المعهودة.

لستُ مضطراً أبداً إلى التطرّف، ما عليّ سوى اللجوء إلى الأساليب المتعارف عليها، لكنّني لن أنكر كم فوجئت وتألمّت وتمّلكني الغضب حين وصلني قرار تعيين عليّة حسنين ونزيهة مأمون في لجنة مناقشة أطروحة الدكتوراه التي أعدّها في الكيمياء، لا أستطيع أن أصف مشاعر الاستنكار والغضب والثورة التي تتالت عليّ دون توقّف ومنعتني عن الأكل والشرب والنوم لأيام عديدة، أعجز عن شرح شعور المهانة الذي سيطر عليّ ورغبة الانتقام التي تآكلتني، لكنّي، بحكم تجربتي الطويلة المتعبة في الحياة وتعاطي السياسة منذ الصغر وحكمتي في نقد ذاتي، جلستُ أهدئ من روعِ نفسي وأحلّل أسباب ما جرى وأخطّط لكيفيّة الردّ عليه والانتقام لكرامتي المجروحة.

عليّ أن أعترف بادئ ذي بدء أنني قد أخطأت بحق نفسي حين قبلت إشرافهما على ما أعدّ، فعندما قدّمتُ لرئيس القسم ملخّص الموضوع الذي أنوي معالجته، أقترح عليّ أسماء هاتين السيّدتين المعروفتين في الكليّة. لعلّي قمت متسرعاً بعض الشيء بحساباتٍ خاطئة، وهما تحاولان الآن جعلي أدفع الثمن. في واقع الأمر، لم يرق لي فوراً  اقتراح الرئيس تعيينهما كمشرفتين، إلا أنني وافقتُ متسرّعاً ظناً منّي أن التعامل مع إناث في مواضيع علميّة جافة كالكيمياء أسهل منه مما هو عليه مع الرجال، إذ هما ستغضّان حتماً النظر عن أخطائي إذا ما اكتشفتاها، ألم تنالا مركزهما عن طريق غضِّ نظر بعض الأساتذة لأسباب خاصّة عن أخطائهما؟ فإذا ما أفهمتهما  بالتلميح ذات مرّة أنّي أعلم وأتفهّم ذلك، لا شكّ أنهما ستوافقان على طريقة معالجتي لموضوعي وإيصالي أخيراً إلى ما أبتغيه: درجة الدكتوراه! يا عين! ومن بعدها، التفرّغ للتعليم الجامعي مع ما يعنيه ذلك من دخلٍ ثابتٍ مقبول، ومركزٍ اجتماعيّ راقٍ، وإناث في مقتبل العمر بمتناول اليد وبالحلال! ولما لا، رئيس قسم أو مدير عام أو حتى عميد،  باستطاعتي دائماً أن أحلم، ألم أحقق معظم أمنياتي حتى الآن؟ 

لكنّي أخطأت في حساباتي ووقعتُ على ذلك النوع من النسوة الذي يصدّق وضعه ومركزه ويظنّ لوهلةٍ أنّه يتساوى مع الرجال! لم يأتِ بعد من يذكرهنّ ويعلّمهنّ الحدود، حان الآن دوري للقيام بذلك كما سبق وفعلتُ مراراً مع أّمي وأخواتي البنات، لم أسمح يوماً لإحداهنّ بتخطّي ما حدّده الدين والعرف والتقاليد، كم من مرّةٍ حاولتُ باللين حيناً وبالقسوة حيناً أن أشير بوضوحٍ تام إلى حدود دور كل جنس، كلّما تخطّته إحداهنّ بشبرٍ صغيرٍ ولو دون قصد، انهمر كفّي عليها فوراً دون عتاب ولا نقاش، لا داعي للثرثرة معهنّ ومجاراتهن في أهواءٍ تودي بالرجال حكماً إلى الضياع، علينا  إفهامهنّ في كل لحظة من هو صاحب القرار الأول والأخير، فمعظمهنّ يحاولن دائماً التغاضي أو التناسي، وها سميّة ونبيلة تأخذان أنفسهما على محمل الجدّ، وتصمّمان على أخذ القرار بمصير أحلامي!

لا بأس، سأبدأ من أقصر الطرق وأقربها للحصول على ما أبتغيه، وإن لم تفضِ بي إلى حيث يجب، سأسير بها رويداً رويداً خطوةً وراء خطوةً حتى أقوم بدوري في هذا المجتمع وأحقق ذاتي فيه كما أستحقّ.

أوّل ما فعلت أنّي تقدّمتُ بطلبٍ خطيّ إلى رئيس القسم، عبّرتُ فيه بشكلٍ مهذّبٍ لا يجرح شعور الدكتورات اللطيفات عن "رغبتي في عدم تعيين أي عنصر نسائي" في لجنة مناقشة أطروحتي، فأنا إنسانٌ مثقّفٌ وأستاذ مساعدٌ في كليّة العلوم، لا يليق بمركزي أن أتصرّف أو أقول ما يتنافى مع مبادئ مراعاة أحاسيس الآخرين، لم أصرّح في هذا الطلب الخطّي عن حقيقة قناعاتي، لم يكن هنالك من داعٍ لذلك، اكتفيت بعدم رغبتي بمساهمتهما في التقييم،  وإذ بالعكروت يرد طلبي رافضاً استبعادهما مصراً على إبقائهما في مركز الحكم علي! إمّا أنّه على علاقة بإحداهما، وهذا احتمالٌ واردٌ جداً يكفي أن أذكره كي تنتشر الإشاعة كالنار في الهشيم، أو أنّه شاذ خَوَل لا علاقة له بصنف الرجال!

حسناً، من الأنسب والأفضل لي أن أحافظ على مدنيّتي وحضارتي وألجم نفسي عن تهمٍ غير ثابتة مبنيّة على مجرّدِ شكوك، بالرغم من قناعتي الداخليّة التامّة بصدق افتراضاتي، قرّرتُ أن ألجأ إلى مجلس الكليّة. كلّ أعضائه رجال، وإن كان بينهم أنصافٌ منهم فلا بدّ بالرغم من ذلك أن أكسب بالأكثرية، وقد صدق ظنّي وأيّدني المجلس في طلبي وأحال مدعيّتا الرجولة إلى التنزّه!

لكنّهما كانتا أكثر عناداّ مما خيّل إليّ! لم تتنزّها كما توقّعت، بل استعملتا أسلوباً أنثوياً مائة بالمائة ومبدؤه الأساسيّ الثرثرة! أصدرتا بياناً نشرتاه في معظم أنحاء الكليّة وعمّمتاه على الصحف ونجحتا في إثارة جدلٍ واسعٍ في الوسط الجامعي، وبالتالي إلى إيصال القضيّة مباشرةً وبسرعةٍ قصوى إلى رئيس الجامعة، الذي، لسببٍ لم أزل أجهله، ألغى قرار مجلس الكليّة وأصرّ على تعيين الأستاذتين حكماً عليّ! 

لم يؤذني حقاً هذا القرار، لا شك أنّه اتخذّ تخوّفاً من اتهامٍ قد يسري "بالعنصريّة"، وأين العيب في العنصريّة والتعصّب لجنس الرجال والدفاع عن حقوقه الموروثة؟ أليس تفوقّه بصحيحٍ وثابتٍ آلاف المرّات علمياً؟ البعض يخشى تحمّل مسئولية كلامٍ أكبر منه، فيأخذ القرار الأسهل عليه، والذي يصبح بنتيجته هو المتضرّر الأكبر، لا بأس، حقاً لم يؤذني هذا القرار،  لم يزل لديّ أبوابٌ أخرى، لكن آلمني جداً ما جاء في ثرثرة البيان، اللعينتان تؤكدان أن وراء طلبي "فكراً رجعياً..." وتجدان حتماً من يصدقّهما، لا تكفيني لعنة ملاحقتهما لي ولرسالتي وأباطيل بيانهما الخدّاع بل عليّ أن أتحمّل فوق ذلك كلّه كونهما حمقاوات! أمن الرجعيّة أن أسعى بكل جهدي إلى منع اختلاط الأدوار في الأجناس؟ أليست هذه سنّة الحياة وقانون الدنيا الذي وضعه الله في شتى مخلوقاته فجعل جنسٌ قوّاماً على الآخر بحسب درجات الارتقاء؟ إن أصبحتُ يوماً مديراً أو عميداً في هذه الكليّة، سألزم جميع الدارسين بالخروج عن إطار دراستهم المحدود، والإطلاع على النظريّات الحديثة المتنوعة في مضاميرٍ شتّى، والصادرة في أهمِّ عواصم العالم، والتي تؤكد دائماً وأبداً صحّة ما بنينا عليه أسس مجتمعنا، وما العِلل التي نعاني منها إلا نتيجة لابتعادنا عن تلك الأسس التاريخيّة العريقة، واستيرادنا لمفاهيم خاطئة نشأت في حضارات لا علاقة لنا بها، والآن، على دوري أنا، لم يعد ينقص هذا المجتمع كي يتسارع انحطاطه ويتزايد انهيار قيمه إلا أن تتحكم في جامعاته النسوة!

يا لسخف ما تقولانه ويا لهول ما يحصل! هذا بعض ما جاء في نصّ البيان: "وراء الطلب إحساسٌ بأن الناس يمكن أن تعيره لأن المشرفين على رسالته سيّدات، وهذا مفهوم خطير لا سيّما وأنّه يصدر داخل جامعة عريقة ومن معيدٍ سيصبح أستاذاً جامعياً..." بالله عليكم، أيّهما المفهوم الأخطر: أن تعيّرني الناس بإشراف سيّدات على رسالتي، والناس في ذلك على حق، أم عمليّة إشراف السيّدات اللواتي هنّ بحكم جنسهن مهووساتٌ جهلة؟!

حسناً، لقد باتت المعركة الآن مفتوحة، وكل الوسائل التي توصل إلى الهدف مسموحة، لم يعد أمامي من حلٍّ سوى اللجوء إلى القضاء، فتقدّمت بدعوى قضائيّة أمام محكمة القضاء الإداري في الاسماعيلية، واتّبعت نفس أسلوبهما، واتهمتهما كما اتهمتاني بالرجعيّة، ودخلتُ أمام القضاة في متاهات التركيبات الكيماوية، محاولاً أن أوحي أن النظريّة التي أعالج في رسالتي هي بمنطلقها ثوريّة، وبما أنّ أهل القانون لا يفقهون في الكيمياء شيئاً، لم يصعب عليّ دفعهم إلى تصديق ذريعة وجود خلافٍ نظري سياسي جذريّ بيني وبين  الأستاذتين المحافظتين، وقد صدر الحكم أخيراً كما يجب أن يكون عليه قرارٌ قضائيّ مبنيّ على معطيات الحال والمنطق، مؤيّداً لطلبي رافضاً وجودهما في لجنة المناقشة، واحتفلتُ مع مجموعة من الرفاق المتحمسين للقضيّة بهذا القرار التاريخي، واعتبرنا أن الموضوع قد انتهى، وأقفلنا ملفَّ عودة الأساتذة النساء إلى المشاركة في تقرير مصير الرجال... لكن يبدو أنّهما أعند وأكثر إصراراً مما تخيّلنا، وأثبتتا مجدّداً كم تتمتعان بعناد كل صنف النساء!

لقد قامتا فور صدور القرار بإحالة الدعوى إلى مجلس مفوضّي الدولة للفصل فيها! لم أكن أتوقّع ذلك أبداً، سيبدأ مجدّداً الشدُّ والجذب، ها أنا دون داعٍ في مواجهة نفسي أشعر أنني في مأزق، لا مبرّر لقلقي، عليّ أن أحافظ على تفاؤلي وثقتي بحكم الدولة، أليست دولتنا دولة رجال؟

لكنّي لا أستطيع منع نفسي من التوتّر، وماذا إذا لم يكن تفاؤلي في محله؟ إضافةً إلى أنّه لا مجال للوثوق بحتميّة فوز المنطق في هذا الزمن الرديء... إنّي أعرف نفسي جيداً، لن أرتاح ولن يغمض لي جفن قبل أن أتدارس شتى الاحتمالات، لن أصل إلى نتيجة مرضية تقنعني بفوزي الأكيد إن لم أحلّل وأستنتج وأضع خطّةَ عملٍ واضحة تأخذ في عين الاعتبار كل العناصر التي يمكن في كل لحظة أن ترد، أقوم بذلك في عملية ذهنيّة بسيطة تعودتّها تعتمد على بناء الفرضيات، فأبدأ بالاحتمال الأكبر:

من المرجّح أن يتألف مجلس مفوضّي الدولة بأجمعه من الرجال، هذا عرف في بلادنا لا أذكر أنّه قد تم الإخلال به من قبل، ومن المؤكّد أن يرأسه منطقياً خيرُ الرجال، إلى هنا وكل شيء يسير على ما يرام، لن يجري ما هو غير متوقّع وأكسب ثانيةً القضيّة كما سبق وجرى دون تعب ولا عذاب، لكن...

إذا كانت عقلية رئيس مجلس مفوضي الدولة من صنف عقلية الذي يرأس حالياً الجامعة، هنالك احتمال واردٌ أن أخسر! إنّه لا شك احتمالٌ ضئيل لا يتخطى نسبة 10-15% لا أكثر، لكنه موجودٌ فعلاً! بل بإمكاني أن أقول أنه قد سبق ووقع! ومنذ فترة وجيزة! ومعي أنا بالذات! وضدي أنا لصالح أنثى منسوخة على نسختين تافهتين! أستنتج إذاً ضرورة زيادة نسبة الخطر على سبيل الاحتياط، فلنقل 50%! اللعنة! لن أقدر على النوم في ظلِّ هكذا احتمال! هذه نسبة مرتفعة جداً! لا! لعلّي أبالغ في حساباتي بسبب قلقي وتوتري... أجل، لا يمكن أن يتخطى هذا الاحتمال نسبة 25%! لا يجوز أصلاً! لكن...

ماذا إذا تكوّن أعضاء المجلس من الصنفين؟ ماذا تصبح النسبة في حالة كتلك؟! لا! ما بالي أتوتّر بشدّة هكذا؟! حتى ولو كان الأمر كذلك، رئيسه سيكون دائماً ومهما جرى رجلاً  عاقلاً يعود القرار الأخير دائماً إليه، بحكم مهام مركزه، فيعدل مع بني جنسه وينصفني كما يتوجّب عليه، لكن...

ماذا إذا تأثر بما تثرثرن به في خلوة ما قبل القرار؟! مجبرٌ أنا على إدخال هذا العامل المنفر وأخذه بعين الاعتبار، أعود مرغماً إلى نسبة الاحتمال الأولى، 50% من احتمال الفشل، 50% من السقوط والمذلّة، 50% من تبخّر الحلم! اللعنة! هذه نسبة حقاً عالية جداً، هذه نسبة الصدفة الكاملة! لم أتدارس بعد احتمالات أخرى تتسارع في ذهني مخيفة مرعبة!

ماذا إذا كان رئيس المجلس من الصنف المعادي؟! ماذا إذا كان هو أيضاً من جنس المشرفتين؟! أعلم أن هذا غير وارد وغير مقبولٍ ومرفوضٍ سلفاً من الجميع، بل أكاد أقنع نفسي أنه مستحيل، لكن ما من نجاح دون استعدادٍ تامٍ لشتى أنواع الاحتمالات، حتى الضئيل منها واردٌ شئتُ ذلك أم أبَيْت! عليّ القبول باحتمال خسارتي أمام امرأتين بسبب ورود احتمال أن تكون امرأة هي التي ستتحكم بمصيري وتقرّره بعد وبعد وبعد! لا أستطيع أن أقبل! لن أرضى بهذا المصير!

لم أعد قادراً على التركيز، غلالةٌ من غضبٍ وكراهية تعمي قلبي تمنعني من التفكير، مهلاً مهلاً أيها الأستاذ المدرّس الذي سيصبح بشكلٍ مشرّفٍ لائق أهمّ دكتور! لا داعي للجزع، قليلٌ من الهدوء ومن العودة إلى تسلسلٍ علميّ منطقيّ لاحتمالات الأمور وأخرج من الهلع الذي أصاب به، ما الذي من الممكن أن يجري في حالةٍ كتلك؟ أين كنت؟ أجل، أتذكّر، إذا كان الرئيس المقبل امرأة! ما هذه الأيّام التعيسة!

حسناً، هنالك احتمالين، الأوّل أن تكون هذه المرأة واعية بكل معنى الكلمة، إذ يتوجب الاعتراف أنه يوجد بين النساء من هنّ واعيات يخدمن مصالح الأمّة بإخلاص قانعات بالحدود التي سنّها الله والعرف والقانون، فتريحني هذه الطيّبة وحدها بحسِّ ضميرها المتطوّر من هذين الحاجزين المنتصبين في وجهي والذين اسمهما نكرة مكرّراً مرّتين! وترفض وحدها أخيراً وجودهما في لجنة المناقشة! وتصدر قراراً وحكماً ومرسوماً وقانوناً يعمّم من الآن فصاعداً على كل الراغبين! عقلي يدور كمحرّكٍ سريع يعمل على الذرّة لا يتوقف عن رمي الفرضيات والاستنتاجات في وجهي الواحدة تلو الأخرى، أعجز عن اللحاق بركابه، لكن...

هل من الممكن أن تصل امرأة حقاً طيّبة نزيهة إلى مركز عالٍ حسّاسٍ كهذا دون أن تكون نفسيّتها مشابهة لنفسية الرجال؟!  لا، هذا شبه مستحيل! اللواتي تصلن بالرغم عنّا جميعاً تحركهنّ منذ البداية شهوة النفوذ والسلطة! إذاً، تلك الرئيسة لن تكون امرأة طيّبة كما تأملّت! أراود عقلي عن نفسه علّه يقبل باحتمال طيبتها فأرتاح للحظة، ولا يقنع!  اللعنة ثم اللعنة  ثم اللعنة!  المأزق الذي ظننت نفسي عالقاً فيه دون مبرر  ما زال ينمو ويكبر! لن يبقى أمامي في حال حكمها لصالح الأستاذتين اللعينتين سوى أن أحاول نقض الحكم والاستئناف مجدّداً وثانيةً وبعد وبعد، وتتأخّر مناقشة أطروحتي، وتبتعد الدكتوراه عنّي إلى أجلٍ غير مسمى! اللعنــــــــــــــة! ستكون رئيسة مجلس مفوضي الدولة امرأة-رجل تقبض دورها على محمل الجدّ وتحكم حتماً لصالح مثيلاتها من النساء! وهنا تتخطى نسبة هذا الاحتمال في حال حصوله الـ 90%! كيف لي بعد الآن أن يغمض لي جفن؟!

50% فقط من احتمال حصولي على شهادة الدكتوراه بشكلٍ يحفظ كرامتي في حال كان الرئيس رجلاً، و 10% في حال كان امرأة! هذا يعني خسارتي الحتميّة! لا شكّ أنَّ خطأ ما قد تسلّل إلى حساباتي، أعيد النظر فيها أقلّبُ وجوهها ولا أجد الثغرة! وماذا إذا كانت... لا... غير ممكن... بلى! وماذا إذا كانت هذه الرئيسة، الملزم بها وحدي من بين سائر الرجال، نزيهةٌ على طريقتها، واكتشفت وحدها استحالة قبولي بتحكيمٍ غير موضوعيّ بعد كل المداخلات التي حصلت وتوّرط وسائل الإعلام بيني وبينهنّ؟ هذا سبب وجيه جداً ومقنع! باستطاعتنا اللجوء إليه! ألخّص موقف الدفاع عن وجهة النظر تلك: الوضع الحالي غير صحيّ بين طالب التحكيم ولجنة الحكم، على كل قاضٍ عادلٍ أن يأخذ بهذا الوضع المستجدّ بمعزل عن موقفه من الصراع الدائر بيني وبين هاتين النسوة، كيف بإمكانٍ عضو في لجنة تحكيم، رجلاً كان أو امرأة، أن يقرر بموضوعية قيمةَ عملٍ ما  في ظلِّ الضغوط الجارية والصراع القائم بينه وبين من يحكم عليه؟ آه ما أجمل هذا المنطق! آه لو أن ذلك حقاً يحصل! لكن...

أين واقعي من الأوهام! هذا منطق الرجال وحده! كيف لم أنتبه إلى أن المرأة بتكوينها الجسماني أعجز من أن تصل إلى مستوى منطقٍ رفيع كهذا؟ دون قدراتها أن تستوعبه! أقع في مطبّات أوهامي وكمين رغبتي بالهروب من احتمالات خسارتي وأتوقّع منهنّ الحكم بنزاهة والخروج من سيطرة نبضات عواطفهن ونفرات دورتهنّ ومزاج أطفالهن وتقلبّات أزواجهن  وتحكّم روائح أجسادهن بأهوائهن! اللعنة عليّ وعليهنّ!

مهما فكّرت وكيفما قلّبت الأفكار في ذهني ودرتُ حول الموضوع وتناولته من كل الزوايا، لا أرى إلا  خسارتي! الاحتمال يرد بنسبةٍ كبيرةٍ جداً، إذاً، لا شكّ أنني الخاسر الأكبر! لا مجال لتجنّب ذلك، لا قدرة لديّ على تفاديه! لا حلّ أمام هذا الاحتمال إلا إزالتهما من الوجود!

يبدو أن طريقة تعاطيّ حتى الآن مع الموضوع تودي بي أياً كانت السبلُ إلى طريقٍ مسدود، ما عليّ سوى البدء بالتفكير بوسائلٍ أخرى... كيف بمقدوري جعلهنّ تغيّرن من موقفهن وحدهن قبل صدور أيّ حكم؟ عليّ أن أجعل الأستاذتين الملعونتين تدركان وحدهما ما عليهما القيام به... أن أدفعهما دفعاً... أن أجعلهما تشعران بالذعر... ربّما حماس أحد المتطرفين المندفع وحده دون تحريض قد ينفع... أو بضعة قطراتٍ من دمٍ أسودٍ على مدخل باب منزلهما فترتعد مفاصلهما وتفهمان أخيراً... ربما بضع رسائل تهديدٍ من مجهولٍ قد تفي بالغرض... وحده التهديد بالعنف يوصل بسرعة إلى النتيجة المرجوة، وحده استعمال القسوة يفيد مع النسوة، لقد أثبتتْ لي تجاربي السابقة أن القوّة هي الطريقة الوحيدة التي تجعلهنّ في النهاية ترضخن بعد طول أخذٍ وردّ، هاتين المرأتين لن تختلفا عن الأخريات، ما من سببٍ لذلك، هذا ما قد يكون عليّ منذ الآن أن أفعل، لا يبدو من الناحية العلميّة أنّه توجد طريقةٌ أسلم، قد أُتّهم بالإرهاب دون تفهّم المتهِّم لحقيقة الأوضاع، قد أوصم بصفاتٍ شنيعة دون النظر في ما أدّى في التاريخ إليها، لا بأس، سأواجه الجميع ببراءتي، يبدو أنّه لم يعد لديّ أي خيار آخر، في أيّة حال، مجبرٌ أخاكم لا بطلُ...   

الرجل
دكتوراه
انتخاب
Anchor 1

© 2017 by Houssoun El Fares - All rights reserved

bottom of page