حرامٌ،
أن تنكسر شقائق النعمان أمام ادعاء غضب الرياح الشمالية الصقعة،
أن تتلطّخ تحت وطء استفراغ الزيف على برادي الورد الفاقع،
أن تنطوي شظاياً على نفسها، طبقاتٌ طبقات،
ذعراً، من طبقاتٍ طبقات،
حرامٌ،
أن تبكي الشقائق من صراخِ الحمقِ الأخرس،
أن تنهار، ولا تجد سوى شتائمَ الذات قبل وبعد مديح الظلِّ العالي،
ورياء النرجسيةِ المقنعّة،
أن تكفّ عيناها عن الضحك، وترتجف شفتاها من القلق، أين قرقعة القبل؟
هرباً من زمجرة قطٍ نوريٍّ يظنُّ موهماً أنّه أسد،
حرامٌ،
أن أتمدّد كتاء طويلةٍ في الخلفيةِ، تضوي الزينةُ بغمازتَيها طوال الجسد، تلسعنا شحناتُ الكهرباء الصفراء، تبرقُ في فم الشمطاء الراعدة بسكوتها المريض، إنها ترعدُ في سماء السيارة الضحوكة،
أن يطغى الرعدُ على فرح صوتِ فيروز،
أن تنتشي الزينةُ معي بثلوجِ جبال لبنان تلوح في الأفق، بمغيبِ شمسِه خلف خط الصنوبر الصاعد
ببطءٍ نحو القمم، نرافقُ بدراً مكتملاً شفافاً داخلَ يهيمُ في بحرٍ من الغيوم الفضيّة المنسدلة على شعر حبيبتي،
أبتسمُ لطيفِ ثليجة البيضاء في حضني تنتظر مغمضة العينين قبلات الأميرات الساحرات،
وطيف مولان المحاربة في جرود أناضول فائضٍ عن حدّه يرمي بحممِ فائضه على الجموع الصامتة،
أهيمُ وثليجة البيضاء، سمكتان تسبحان في فضاء السهول الكبرى، نعلقُ في شباكِ نكدهما،
نتأرجح على الحافة نكاد نقع من أعلى خروم الشبك على المفاعل النووي المتفسّخ بالحقدِ في الأسفل،
نتعلّقُ بغيومِ فضيةٍ مسرعةٍ إلى خيوطِ شعرِ حبيبتي، نتدلى باتجاههما، ونضحك، نتلامس في الصرّة نقبلها ونضحك، نكاد نقع من رأسنا على رأسين بحجم الذرّةِ في الأسفل، نتشبثُّ ببعضنا البعض كي لا تطالنا عضّات الذئبة متى أسمعتنا غصباً عواءَ النظرات،
حرامٌ،
أن نرى بأم العين جيرة الرقة للغطرسة، والتواضع للتعالي، والحنان للعجرفة،
أبهذا القدر تتحابى الأضداد؟
جيرةٌ غريبةٌ بين غرباء،
حيرةٌ تجري في شرايين الحالمين الأبرياء،
حرامٌ أن نكون في قلب سهل البقاع المتموج كدبس الخروب المنعصر بين أصابعي، ينفثُنا دخانَ هناءٍ بشوش، وطربٍ ضاحك، ونظرة مقهقهة، تحيلنا الأفعى، حين تغيّر جلدَها، ركامَ احتيار،
تناثرَ تردّدٍ تحت أقدام جبروتها الظالم للحبيب الخانع ينتظر وقع الصفعة دون حراك،
يتلطخ بياض ثليجة البيضاء وقلبي بدم مهانة الحبيب،
تكبر حيرتي من سكونه، تكبر الدهشة في صفاء عين الثليجةِ، وتكبر نقاوة البدر في بحر الفضة،
حيرةٌ مؤلمةٌ تعسُّ بين الضلوعَ تقطعُ النفسَ تُخرسُ المطروبَ عن الآه،
جيرةٌ مؤلمةٌ تمزّقُ حلمَ حبٍ يتهاوى تحت قرع طبول حروبٍ لا تنتهي،
حروبٌ، ككلِ الحروب، بلا معنى، بلا جدوى، ل تحطّم أوهام الحالمين،
أبهذا القدر تُسخفُ الحروب، وتُسحق أحلام البراءةِ جثثاً على أرضِ التملك؟
حرامٌ أن ينتهي يومٌ كهذا،
يبدأُ بقبلةٍ تُدفىء سرير الطفلِ قبل النوم، وقبل الفجر، وقبل معجون الأسنان،
يومٌ يفوح بطعم الصفيحة البعلبكية على الصوبا، وباحمرار خدّي العروس حين حاصرتها حبيبتي بذراعيها وساقيها خلعت عنها حجابها ثمّ خشعت احتراماً لاحمرار الخدود،
يومٌ بجمال تلك اللحظة، وروعة هرب النظر من الوعدِ عند الصبابة،
يومٌ بألوان ذلك الديكِ المزهوِّ بعرفه المرتفعِ القاني، يحتفل بزرقةِ النيلِ وخضرةِ الفراتِ في ذيله البرّاق، وبأرض البقاع السمراء الناضحة بذهب الخيرات بين جناحيه،
يومٌ غردّت طواله زينةُ الزغاليل بألف روايةٍ ورواية،
تلك الزغاليل ذاتُها التي أطعمناها ألفَ لوزٍ وألفَ سُكّر،
أهكذا ينتهي يومٌ كهذا، بفيلمٍ طويلٍ تعيس؟
أبهذا القدر يكون الجبنُ أمام سطوة خداع الذكاء؟
ألم يضق أحدٌ ذرعاً بعد بتلك المفاهيم المعلوكة المكرّرة من الببّغاء التي نصبت على رأسها لفّة؟
حرامٌ أن يأسف المرءُ للأحباء الأغبياء!
أو لعلّه ليس غباء، مجرّدُ جينةُ شقاء، تتنقّلُ في خلايا العائلة والسلالة،
فيزمجرون على أقرب الأقرباء، كاحتمال لبوة،
ويخنعون للغرباء ترجمةً لجينات القطط الشاردة تبحثُ في المزابل عن لقمة حنان،
يخنعون للغرباء الذئاب التي إن كشّرت عن أنيابها ظنّ المسطول أنها تضحك،
أبهذا القدر يكون الغباء، في عمى حمّى الهوى، أم هذا تفكير الذكاء الكامن في أصولِ أكلِ الهواء؟
آهٍ منكِ يا حلوتي الصغيرة!
حرامٌ أن تُهدر طاقات الفرح المتفجرّة، تدفنُ حيّةً في زوايا المقبرة،
هيا اذهبي واخلعي حجاب اللفة عن رأس معشوقِك الكاذب،
وانزعي حجاب الحُمقِ عن عينيكِ الضحوكتين،
وضعي حزام السومو الأسود،
تعالي صارعيني في ميادينِ الزهورِ البريّةِ التي نتنشقها،
نبرعمُ لوزاً وسكراً، نهديه للزغاليل الشادية بنغم الآهات،
تعالي داخل حلبةٍ يرقص فيها المصارعان على وقع العناق، يخرّ أحدهما منتشياً خارجَ الحلبة،
ينتصب مصارع سومو مزهزهاً ثم يخشعُ صامتاً أمام النشوة المتلألئة في العيون،
تعالي ننحني، نتبادل مثلهما، تحيات الإمتنان العميق،
نصلّي بعدها لإله الوصل القريب،
ونلتقي، قربَ المدفأة، حيث يحلو معكِ اللقاء،
تعالي أضم يديكِ المتعبتين بين راحتيّ،
وأتامّلُ البنفسجَ في عينيكِ،
أسرّحُ الفضّة عن رداء الصوف،
أداعبُ خدّكِ بخنصرٍ ناعمٍ مشتاق،
ومع كلثومة، أغنّي بحنانٍ:
" إنمّا للصبر حدود، للصبر حدود، يا حبيبي."

Death and the Masks (1897) James Ensor