ربعُ قرنٍ والوردُ يعلّمُ الشوكَ العطرَ،
والرغيفُ الساخنُ، الوجهَ العبوسَ، الضحكَ،
والكلامُ الحلوُ، اللسانَ القُبَل،
وضمّةُ الحنانُ، شَدّةَ العناق،
ألا يكفي ربعُ قرنٍ للأملِ أنّ ييأس؟
كفاني تعبٌ من المحاولة،
ركضٌ وراء الخدمة تلو الخدمة، والحلّ تلو الحل، والوسط تلو الوسط،
والحبّ الذي يأتي مكافأةً لخدمةٍ، أو لحلٍّ، أو لأمرٍ، وَسَط...
كفاني وصالٌ ينتهي قبل أن يبدأ،
وعناقٌ قبل الضمّ، وسيجارة بعد الوصال أطيب منه،
كفاني غزلٌ شحاذة، وحبٌ شِلِن مِقطّع...
لا دفاع عمّن صدر الحكمُ بإعدامه أكثر من مرّة، لا دعوةَ أمٍ في ليلةِ القدرِ تنقذُ، أو تؤجّلُ التنفيذَ،
لكن العدلَ حقٌ، للصفات الحميدة حق الذِكر،
كريمةٌ الضحية، لا تسأل عن مالٍ ولا عن جاه،
تحدّث الجبّار عن وفاء الأصدقاء، قال: ما كان ينقص إلا البخل،
إيه والله لكنتِ استحقيّتِ من المحبّين لبطة!
أين مكمنُ الألمِ؟
أجملُ لعبةٍ تملأ فراغَ الأيّامِ،
والأشهرِ والسنين،
وحيدُ العنكبوت ،
ومحطّمُ الفقّاعات،
لعن اللهُ الحاسوبَ، والفراغ!
أين مكمنُ الألمِ؟
في كتابٍ تبدأ قراءتُه، ولا تنتهي،
حين كانت المطالعةُ ابتلاعاً،
في مجلةٍ تُقلّب صفحاتها لتأمّلِ الصور،
حين كانت الحروفُ شراباً،
في صحيفةٍ يموت خبرها قبل أن يُختمر،
في سطرٍ جميلٍ لا يجد من يُروى له.
أين مكمنُ الألمِ؟
في شعرٍ لا يتذوّقه، وإن ظلماً، الشريكُ،
ومنحوتةٍ لا تجد ما يُقال فيها، سوى... لا شيء،
ورسوماتٍ تختفي، كأنّها فعلاً، شبهُ لا شيء،
تحت وطأة القهر،
لا قيمة لأيّةِ عمليةِ خلق،
لا قيمة حتى للكلام،
لا سمع.
أين مكمنُ الألمِ؟
أيهمُّ حقاً،
إن كان الشيك، والكاش، والبطاقة، والإعتماد،كلّها في جيبٍ واحدٍ، يقبضُ ويدفعُ ويحيل؟
أيهمُّ حقاً، إن كان المازوت، والكهرباء، والغسيل، والناطور،كلّها فواتير صيانة،
لعلاقةٍ تنازع الموت منذ لحظة الميلاد؟
أيهمُّ حقاً،
إن كان المأكلُ، والمشربُ، واللوازم، دعوةٌ تحتاجٌ إلى دعوةٍ كي تُلبى الدعوة؟
إن كان الولدُ، والولدُ، والأمُ، والأمُ، والجيرةُ والخدمِ،
لا تاريخَ لههم سوى تاريخي، مويا ليتهم لا يجتزئون؟
إن كنتُ قد اخترتُ التحمّل منذ الصغر، من قال، إن كنتُ مريضةً، أن يلحق بي كل الغجر؟
العدلُ كلمة حقٍ تُقال،
أما من حلوٍ في أنهر المرارةِ تلك؟
يجيبُ المبدع: لا شكّ، لكن أين أثرُ الذكرى؟
للقاعدة استثناءٌ يؤكّدُها،
ولديّ اثنان،
نديمٌ رائعٌ يفي بوعد الندامة،
وزينة مغناجٌ تبقى، مع الحرفِ، زينةُ الحياة،
هل من فضلٍ للإستثناء على القاعدة؟
العدلُ كلمةُ حقٍ تُقال،
فلأتذكّر بعض العذوبة،
في مداعباتٍ عجولةٍ،
في مشوارٍ يتردّد فيه صدى زقزقزة طفلٍ في مرجٍ رحب،
وصدى خريرِ موجةٍ على أجسادٍ تلعب،
وأخرى تسلتقي في قيلولةٍ على رملٍ عند المغيب،
في هديّةٍ جلبت الصوتَ النقيّ الرخيم إلى فضاء الجبل،
لكن الدماغ يحتاج إلى احتراقٍ لحفظ اللحظة،
من يُشعل ناراً في زقزقةِ طفلٍ، وموجٍ، وقيلولة، أو في هديّة؟
أين مكمنُ الألمِ؟
في اكتشافٍ وقعَ منذ ربع قرن،
وبقي، في كلِّ مرّة، على حدود الاكتشاف،
نصفي بمنسوبِ الكسل ذاته،
تعسٌ بليدٌ يرضى بألا يضحك،
نصفٌ آدميٌّ أكلت رأسه التربية الصالحة،
اهترى، أكله العفن،
ولم أزل حين أكتشف نصفي الثاني،
أصابُ بنفسِ حالِ البله.
نصفي الثاني أنا آخرٌ يسكنُ جسدي دون رضاي،
أحتقره، لكنّه، من شدة حقارته،
يجتاحني،
لأنّه يعلم أن جمعَ الأنصافِ لا يؤدّي إلى واحد،
يعلم أن لا معادلة عشقٍ في مجرد عملية حساب،
أجمعُ أنصافاً على أصفارٍ إلى ما لا نهاية،
تربيةٌ صالحة، إيه والله.
التعتيرُ صفةٌ تُكتسب مع الوقت،
وقد اكتسبتها بجدارة،
بتفوقٍ وامتياز، كعادتي،
ماذا إذا مرّ ربع قرن آخر،
ولم أزل أنظّر عن أسبابِ وظواهرِ التعتير؟
قد يكون التعتير صفة ملاصقة للوطن،
قد يكون التعتيرُ، في خيارات أُخرى، أَخرى،
لكنه، على الأقل، كالأمل، قد يترك أثراً للذكرى.
تروق لي كلمة "إنفصام"،
إنفصامٌ داخلي يجمع التعتيرَ بـهنيهات فرح،
واللاشعورَ باحتمال الهوى،
ومحطّمَ الفقاعات بالأحرفِ والطينِ والألوان،
انفصامٌ غريبٌ عجيبٌ،
لا يظهر إلا في المناسبات السحرية، كالشبح،
حين يأتي العرّافون والعرّافات زرافات زرافات،
يشيرون ويتغامزون ويتضاحكون،
أرتدي تعويذةً من حروفٍ مشّعةٍ علّني أُشفى،
تطرد التعويذةُ الهمَّ عن القلب،
وفي قفاه أشباحُ الإنفصام وتوابعه،
يحلّ محّلها الهوسُ بالغرام، بالأحرف، بالكلام،
يحاول الشبحُ إعادة احتلال الروح المسلوبة،
تحميني التعويذة من تعتيرٍ يخلب لبّي في لحظة كسلٍ دون انتباه،
تفصلني عن انفصامي بجبلٍ من الهمس والطحين والخشب،
بسنواتٍ ضوئية عن بيروت، حيث تتلألأُ أضواء حبّي وحبّي وحبّي،
وكل احتمالات الحب الآتي والذي لن يأتي برغم الدعاء،
أتشبّثُ بتعويذتي، أتأمّل الفضاء الفاصل،
أرى شبحي يختفي خلف ظل البدر المكتمل أبدا،
أسمع ضحكاتي تشدو في ثنايا الغيمِ الفضّي،
أتنشّقُ عبير بقايا طحين اللقاء،
وأفرحُ، أحقاً شُفيتُ؟
أم هي مرحلةٌ عابرة،
تزول معها آثار التعويذة والشعر والسحر،
ويعود بعدها الشبح، بالعتمة واللابريق؟
أكره كلمة "إنفصام"،
ترتديني،
دميةٌ متحرّكةٌ تطيع أوامر التربية الصالحة،
دمية تحلم بالعهرِ،
تُطرب لشتيمة العاهرة،
تغفو على هوامات بلا حياء،
تستيقظ على شبح الإنفصام قد احتلّ الروح،
دون قرع الباب،
بلا إذنٍ ولا طلب.
فقدت دميتي المنسيةَ عيناها، وجدتها بعد دهرٍ،
حنّ الأعورُ إلى العمى،
لم أعد أقوى على الفُراق.
أنا الدميةُ،
صورةٌ بالأبيضِ والاسودِ،
معلّقة على جدار الإنتظار،
تتأرجحُ وحدها،
على طريق الإصفرار.
ربّاه، كيف السبيل إلى الشفاء؟
أدعو الشريكَ إلى كأسٍ، ولا يحلو له معي ولا دوني الكأسُ،
إلى سيجارةٍ، لا تأخذه إلى حيث يحلو لي أو لغيري الطربُ،
إلى حبٍ وجنسٍ، إثرَ دعوةٍ ولا شهوة، تقنيّاً تنجح، أدبياً، لا تُقيمُ،
إلى شراكةٍ في اللعبِ، والتلاعبِ، والمداعبةِ التي تضع المرءَ في حالِ هياجٍ دائم،
لا يأتي هياجٌ ولا يحلو اللعب،
أنظرُ إلى المتعةِ المتكاثرةِ إلى احتمالاتِ متعاتٍ سخيّة،
ولا أجد سوى فراغ النظرات مستلقٍ على كنبة،
لا يفكّرُ بشيءٍ،
إلهي، أبإمكان مرءٍ ألا يفكّر بشيءٍ على الإطلاق؟
يا لهذه النعمة،
ربّي أنعِم عليّ بإلغاء السؤال،
برحمة النسيان الذي لا يترك ذكرى،
اجعلني بلهاء، لا أحتاج إلى الكثير كي لا أحزن ولا أنعَم،
أبقى على حافةِ الحالةِ،
أستلقي على ظاهرها دون اختراق الباطن،
ويمرُّ العمرُ على تخومِ العمرِ،
لا أقبضُ على لحظةٍ، سوى سراب،
لا يبقى من العمر ذكرى، سوى تراب.
هذا ما جرى في باريس،
وهذا ما جرى في بيروت،
باستثناء حال البعاد بدواعي السفر،
حيث يختبىء الشبحُ خلفَ ستارِ الحرمان،
هذا ما جرى في المدن التي لا رائحةً لها، ولا ضوء،
في شرايين الزمن المعلّق على الفراغ،
فراغ الروح من اتصالٍ وتواصل،
فراغ العيون من النظر، ولا صبابة،
فراغ الأفواه من الحوار، ولا مدام،
فراغ البطون من اللذة، ولا ارتعاش،
أمدنٍ هذه، أم مقابر؟
دع عنك لومي، فإن اللومَ إغراء،
عالج إنهيارَك وحدك،
لم يبق من قممُ جبالي سوى القليلُ القليل،
بالكاد يكفي لما تبّقى من العمر، لا يبدو مديداً،
بالكادِ يكفي زاداً من الحب لأيام الغربة السوداء،
عاشر الندمان،
كن نديماً للنديمِ، يستاهل الندمانُ الكأسَ،
إذهب، وتعلّم الضحك،
قنطارٌ من القهقهة خيرٌ من ألف علاج.
أخذتُ فجأةً، أؤمنُ بالأبراج،
برجٌ يمتصُّ طاقةَ برجٍ،
وبرجٌ يزهرُ على أطرافِ الأصابع وطرفِ العيون اشتعالا،
تنحتُ الأصابعُ تكتب عن حوارات العيون،
برجٌ يشربُ من بئرِ برجٍ، يرمي بها حجر،
وبرجٌ إذا ما شربته الماءُ العذبةُ ارتوى،
هكذا نحن،
طاقتان لا تجتمعان إلا بإذنه تعالى، ولم يأذن اللهُ بعد،
متوازيتان في التسطيلِ المريح، والكسلِ اللجوج،
تتقاطعان، إذا ما تقاطعتا، في لحظةٍ لا تدوم، ولا ذكرى،
ولا من يحزنون،
ولا من يفرحون،
نيامٌ فقط، سائرون في اليقظة على دربِ الروتين،
هائمون بلا هدف، شاخصةٌ أشباحهم إلى ما لا يُرى،
تمتصُ الحياةُ طاقتّهم، ترمي على ظهورهم بحملها، ينوؤون،
تضيع ضحكاتهم في عتمة السماء القابضة على المدن المقابر،
يضيع حتى الابتسام،
أسخريةٌ هذه البسمة، أم للذاتِ احتقار؟
أخذتُ فجأةً، أؤمنُ بالأبراج،
هل عاشر الحملُ يوماً حوتاً، ولم يبتلعه؟
وديعٌ هو الحمل، وداعةَ الجمل حين يكبو،
مرعبٌ هو الحوت،
يبتلعُ الماءَ،
تخرج من نافوخةِ دماغه نوافيرَ عطاء،
منع الحوتُ نفسه عن الإبتلاع،
امتنع عنه النفس،
كاد يختنقُ،
ناطح الحملُ الحوتَ،
فظلمه،
من قال أن قانونَ الطبيعةِ ظالمُ؟
إنّه فقط، حبُ البقاء.
يقولون إنّني عائدة،
نعم، ربّما، الأرجح،
لكن يا ربّ، قدّرني على الهرب.
تعيسةٌ أنا في بقائي،
تعيسةٌ أنا في هربي،
لكن للبقاء طعمُ الرماد،
وللهربِ، أنشودة.

Joan Miro
